الاثنين، 10 سبتمبر 2012

مفاهيم الإيثار والعدل

دراسة حديثة: مفاهيم الإيثار والعدل يكتسبها الطفل في عمر 15 شهرا
لندن: صفات سلامة
الإيثار والعدل (الإنصاف)، من المشاعر والفضائل والقيم الأخلاقية النبيلة السامية التي حثت عليها مختلف الديانات والثقافات، حرصا على العلاقات الإنسانية والروابط الاجتماعية بين الأفراد ولضمان تماسك المجتمعات وسعادة البشرية.
والإيثار (Altruism)، هو تقديم الغير على النفس، أي يقدم المرء حاجة غيره على حاجته، على الرغم من احتياجه لها، ومساعدة وعمل الخير للآخرين من دون مقابل، وهو عكس الأثرة والأنانية، أي حب الذات أو النفس وتفضيلها على الآخرين وتقديم المصلحة الشخصية على المصلحة العامة، أما العدل فعكس الظلم والجور، ويعني الإنصاف والمساواة وعدم الظلم وإعطاء كل فرد حقه وعدم التعدي على حقوق الغير. ولكن هناك سؤال مهم يطرح نفسه، في أي عمر زمني يمكن أن تنمو وتظهر مفاهيم الإيثار والعدل، وهل يمكن تنميتها لدى الأفراد؟

أشارت دراسات سابقة، إلى أن الأطفال في عمر عامين يمكن أن يساعدوا الآخرين، الأمر الذي يعد مؤشرا على نمو مفهوم الإيثار لديهم ، بينما في نحو سن السادسة أو السابعة، يبدي الأطفال الإحساس والشعور بمفهوم العدل.

ولكن، بحسب دراسة حديثة تم تمويلها من المعهد الوطني الأميركي لصحة الطفل والتنمية البشرية، ونشرت نتائجها، على الموقع الإلكتروني لمجلة «بلوس ون» (PLoS ONE)، في 7 أكتوبر (تشرين الأول) الحالي، أشارت إلى أن المشاعر الأساسية لمفاهيم الإيثار والعدل، يتم اكتسابها مبكرا لدى الأطفال في عمر 15 شهرا، ففي هذه السن يدرك الأطفال الفرق بين التوزيع المتساوي وغير المتساوي في المواد الغذائية، كما يبدأون في إظهار السلوك التعاوني مثل مساعدة الآخرين تلقائيا.

فقد لاحظ القائمون بالدراسة أن الأطفال في عمر 15 شهرا، لديهم القدرة على إظهار فهم جيد لما هو عادل وغير عادل، حيث تمكنوا في التجربة من التمييز بين التوزيع العادل أو المتساوي وغير العادل للغذاء، كما ظهرت علاقة بين مدى حساسيتهم تجاه السلوك العادل واستعدادهم لمشاركة الآخرين لعبتهم المفضلة.

وقالت، جيسيكا سومرفيل، الأستاذة المساعدة بقسم علم النفس بجامعة واشنطن الأميركية وقائدة هذه الدراسة، والخبيرة في مرحلة الطفولة المبكرة، إن «نتائج الدراسة أظهرت أن قواعد ومفاهيم الإيثار والعدالة، يتم اكتسابها بسرعة أكثر، مما كنا نعتقد». وأضافت أن «هناك صلة بين الإيثار والعدالة لدى الأطفال الرضع في هذا العمر، فقد كانوا أكثر حساسية عند التوزيع غير العادل للغذاء، كما أظهروا السلوك التعاوني ومساعدة الآخرين بصورة تلقائية، فمن كانوا أكثر حساسية تجاه مفهوم العدل أو الإنصاف في توزيع الغذاء، كانوا هم أيضا أكثر احتمالا لمشاركة الآخرين لعبتهم المفضلة».

ولإثبات هذه النتائج، استعان القائمون على هذه الدراسة، بمجموعة من الأطفال، بلغ عددهم 47 طفلا رضيعا، تبلغ أعمارهم 15 شهرا، وفي التجربة، يعرض عليهم وهم جالسون على حجر والديهم، مقطعان مختلفان من شريط فيديو قصير، لتحليل ردود فعلهم. في المقطع الأول، يمسك المجرب بطبق من رقائق البسكويت (crackers)، ويقوم بتوزيعها بين اثنين من مجربين آخرين، في المرة الأولى، يتم التوزيع بينهما بالعدل (بالتساوي)، وفي الأخرى، من دون تساو، حيث يحصل فرد واحد على كمية أكبر من بسكويت «الكراكرز». وتضمن المقطع الثاني من شريط الفيديو، نفس العمل، ولكن استخدم فيه المجربون اللبن بدلا من رقائق البسكويت. وانطلاقا من ظاهرة تعرف بـ«انتهاك أو مخالفة الشيء المتوقع» (violation of expectancy)، وتعني أن الأطفال يظهرون قدرا أكبر من الاهتمام والاندهاش، عندما يتعرضون لمفاجأة وشيء غير متوقع، فقد اكتشف الباحثون أن الأطفال الرضع، ظلوا يبدون اهتماما لفترة أطول، عندما لم يكن توزيع الغذاء يتم بالعدل بين المشاركين في التجربة، وأضافوا أن الأطفال الرضع كانوا ينتظرون توزيعا عادلا للمواد الغذائية المستخدمة في التجربة، ولهذا أصيبوا بالدهشة عند رؤيتهم شخصا يحصل على قدر أكبر من الغذاء، مقارنة بما يحصل عليه الشخص الآخر.

وقالت سومرفيل، إن نتائج التجربة أظهرت أن هناك فروقا فردية في الإيثار في وقت مبكر من مراحل الحياة، وتتساءل: هل صفات الإيثار والعدالة، يمكن رعايتها وتنميتها؟ لهذا، فهي تبحث في كيفية مساهمة قيم الوالدين ومعتقداتهم، في إحداث تغييرات في تطور ونمو الأطفال الرضع. وتقول سومرفيل، إنه «من المرجح أن الأطفال يلتقطون القواعد الأساسية للإيثار والعدل بطريقة غير لفظية، من خلال مراقبة كيفية تعامل الأفراد بعضهم مع بعض، كما أن التقييمات الأخلاقية والسلوكيات الاجتماعية الإيجابية، ترتبط بشدة بالمراحل المبكرة من النمو».

وقد أشارت البحوث إلى أننا في حياتنا نكره وننفر من الحالات والمظاهر غير العادلة، وهذا النفور هو جزء من ردود فعل الدماغ، ففي دراسة نشرت نتائجها بمجلة «نيتشر» (الطبيعة) العلمية البريطانية الشهيرة، في 25 فبراير (شباط)، من العام الماضي، تم الكشف فيها عن أول دليل فسيولوجي على استجابة الدماغ للظلم وعدم المساواة (Inequality)، فقد توصل الباحثون إلى أن هناك منطقة في الدماغ، مسؤولة عن العدل والإنصاف في معاملة الآخرين، وقالت الباحثة إليزابيث تريكومي، الأستاذة المساعدة بقسم علم النفس بجامعة روتغرز الأميركية في نيوجيرسي، والمشاركة في الدراسة، إن «مسح الدماغ بالرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI)، أظهر أن مناطق اللحاء قبل الجبهي (Prefrontal cortex) ، و(ستراتيوم) (striatum)، في الدماغ، تلعب دورا أساسيا في الطريقة التي يقيم فيها الأفراد المكافآت التي يتلقونها»، فقد وجد الفريق البحثي أن مراكز المكافأة في الدماغ، تستجيب بقوة أكبر عندما يحصل شخص فقير على مكافأة مالية، بالمقارنة بالشخص الغني، وأضافت تريكومي، أننا في مرحلة معينة من حياتنا، نصرخ بالقول: هذا عمل ظالم أو جائر، وهذا يعكس توجه البشر عموما نحو الخير وليس الشر، فقد أظهرت الدراسة أن الدماغ لا يهتم فقط بتحقيق المصالح الشخصية للأفراد، وقد يبين ذلك سبب اهتمامنا الزائد بما يحصل للآخرين، حتى ولو لم تؤثر أوضاعهم علينا بصورة مباشرة». ويذكر أن العلماء قد اكتشفوا أن هناك مناطق بالدماغ ترتبط ارتباطا مباشرا بدرجة الإيثارية لدى كل فرد، ففي دراسة نشرت على الموقع الإلكتروني لمجلة «نيتشر نيوروساينس»، في 21 يناير (كانون الثاني) عام 2007، اكتشف باحثون بالمركز الطبي بجامعة ديوك الأميركية، أن هناك منطقة في الدماغ مسؤولة عن السلوك الإيثاري، فقد أجرى الباحثون اختبارات على عدد من المشاركين بلغ 45 شخصا، من خلال وضعهم أمام خيارين، إما المشاركة بلعبة كومبيوترية، أو مراقبتها فقط، علما بأن الفوز باللعبة كان يرافقه كسب مادي، وقد تم إجراء مسح لأدمغة المفحوصين، باستخدام التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي، وأظهرت النتائج أن «الثلم الصدغي العلوي الخلفي من الدماغ» (posterior superior temporal sulcus) الموجود بالقشرة المخية (Cerebral cortex) (الطبقة السطحية من نصف كرة المخ)، كان الأكثر نشاطا عندما راقب المشاركون اللعبة ورفضوا الحصول على الربح، مقارنة بنشاط تلك المنطقة عندما مارسوا هم أنفسهم اللعب. يقول عالم النفس الأميركي، دانييل غولمان، في كتابه الشهير «الذكاء العاطفي»، أن علماء علم نفس النمو وجدوا من خلال دراساتهم، أن جذور الأخلاق يمكن غرسها في الإنسان منذ مرحلة الطفولة، فالأطفال منذ اليوم الأول لولادتهم، يشعرون بالاضطراب والتوتر عند سماع طفل آخر يبكي، ومثال ذلك ما جاء في دراسة عالم النفس مارتن هوفمان، المختص في التعاطف، بأن طفلا عمره عام، قام بجذب أمه نحو صديقه الطفل الذي يبكي لتواسيه وتخفف عنه، متجاهلا أم صديقه الطفل الموجودة بالحجرة، وطفلة أخرى عمرها عاما تضع إصبعها في فمها إذا جرحت إصبع طفلة أخرى، لتتبين هي أيضا إن كانت ستشعر بالألم والأسى. ويرى هوفمان أن جذور الفضيلة أو الأخلاق موجودة في القدرة على إبداء مشاعر التعاطف، بمعنى أن تتصور نفسك في مكان الآخرين، وهذه القدرة هي التي تدفع الأفراد لمشاركة الآخرين في محنتهم والتحرك لفعل أي أشياء لمساعدتهم. ويرى هوفمان أن التعاطف مع الآخرين ينمو بشكل طبيعي منذ السنوات الأولى لمرحلة الطفولة ويستمر مع امتداد العمر.

لقد أصبحت هناك أهمية لتنمية وتربية أبنائنا على مفاهيم وقواعد وسلوكيات الإيثار والعدل وغيرها من الأخلاقيات والقيم الإنسانية والمجتمعية النبيلة، ومنذ مراحل النمو الأولى، وذلك من خلال مفردات الخطاب الديني، وأساليب التنشئة الاجتماعية، وبخاصة في الأسرة والمدرسة، التي يمكن أن تساهم جميعها في تحسين العلاقات والروابط الإنسانية، وتماسك وترابط الأفراد والمجتمعات.

جريدة الشرق الأوسط .. العدد 12013 الاربعاء 19 / 10 / 2011 
.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق